من
كلمات الرئيس
الخالد الشهيد
ياسر عرفات
عام انبلاج الأمل
انقضى عام الجمر والنار، والذي خضنا فيه وخلاله أعنف وأشرف معارك التحدي والمواجهات الضارية، وعلى أكثر من جبهة من جبهات النضال التي يخوضها شعبنا المجاهد بقيادته الثورية المؤمنة، ضد معسكر متعدد الأطراف والأدوات، تكالب بشراسة وضراوة وعنف وضاعف من عدوانه بشكل هستيري، ذلك لأنه رأى الثورة الفلسطينية العملاقة، تؤكد وجودها وتثبت أقدامها، وتعيد تشكيل قواها وتنظيم بناها في كل المواقع والجهات وعلى المستويات كافة.
لقد أثبتت هذه الثورة العملاقة، أنها أقوى من خطط التصفية السياسية والعسكرية التي أرادوها عام 1982، فخرجت من هذه المعركة منتصرة، قوية أقوى من كل المحاولات والمؤامرات التي اعترضت مسيرتها النضالية، وقد أعادت رسم الخريطة السياسية في المنطقة كلها، وقد تم ذلك على هدي حركتها المستندة إلى عدالة القضية، والإيمان بقوة هذا الشعب، ووحدة الأمة العربية شعباً وأرضاً ومصيراً، وعادت لتكون الرقم الصعب والأساسي في معادلة المنطقة، وقفزت على كل الجمر والنار، وكل صيغ وأشكال المؤامرات والعملاء والمأجورين.
في يوم الذكرى الثانية والعشرين لانطلاقة الثورة، تؤكد الثورة الفلسطينية قدرتها وإمكاناتها اللامحددة، فقد أفشلت مخططات العدو الصهيوني الذي ظن قادته، أن المنطقة قد أثمرت بالتقسيم والتشرذم، وقد حان قطافها، فأقدمت على هجومها على لبنان، لكي تعمل على تقسيمه، وتتقاسم النفوذ فيه، وظنت بإمكانية إقامة الكنتونات الطائفية على أرضه، بهدف بلقنة المنطقة كلها.
لقد ظن العدو الصهيوني أنه سيتمتع بسلام دائم في الجليل، يمتد سنوات وسنوات، إلا أن صواريخ الكاتيوشا الفلسطينية عادت لتنسف هذا الحلم الإسرائيلي، ولترسخ قدرة المجاهدين اللبنانيين والفلسطينيين في الجنوب اللبناني من جديد، ولتتجذر وتمتد انتفاضة عارمة، تشمل مدن وقرى فلسطين، وكل تجمعات ومخيمات فلسطين.
لقد حققت الثورة الفلسطينية المعاصرة، بالنضال الثوري والشجاع على الجبهات العسكرية والدبلوماسية والجاهيرية والإعلامية، أعظم إنجازات الأمة، واستطاعت أن تضع الشعار الثوري الذي يقول أن تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة، وجسدته في وحدة الشعبين اللبناني والفلسطيني المصيرية مع جماهير الأمة العربية، فكانت العلاقة النضالية المتميزة، والتي تعمّدت بالدم في المعركة المستمرة ضد المحتلين الصهيونيين وحماتهم الأمريكيين وأدواتهم المحلية.
لقد أعلن الغزاة، أن هدفهم تدمير البني التحتية والفوقية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت نتيجة هذه الحرب الفشل الذريع، وكانت أطول حرب عربية إسرائيلية، خاضتها الثورة وحلفاؤها في الحركة الوطنية والإسلامية اللبنانية. وعلى الرغم من إجبار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على الخروج من لبنان عبر بيروت، فإن قوات الثورة الفلسطينية التي بقيت بين جماهيرها في المخيمات استطاعت أن تصنع المعجزة، حينما خاضت معارك الدفاع عن المخيم، وكانت هذه المعارك واحدة من أطول حروب الاستنزاف ضد جيش العدو الإسرائيلي، وقد أجبرته على سحب قواته من لبنان، وعلى احتفاظه ببعض قواته في الجنوب اللبناني، وسقطت مقولته العسكرية التي أطلقها على عملية اجتياحه تحت عنوان " سلامة الجليل ".
حاول العدو الإسرائيلي من خلال دعايته العدوانية، طمس الدور الرئيسي الذي تقوم به الثورة الفلسطينية وحلفاؤها من القوى الوطنية والإسلامية في حرب الاستنزاف على جبهة الجنوب اللبناني، وحاول ترويج الدور المزعوم لعصابات " أمل "، بهدف إخفاء دور هذه الحركة في حملتها المسعورة ضد مخيماتنا في الجنوب اللبناني وفي بيروت، بدعم مباشر من العدو الصهيوني. ولكن الأقنعة كلها سقطت عن الوجوه الماكرة، وظهر الدور الحقيقي لحركة أمل في حصارها للمخيمات الفلسطينية، خدمة للنظام السوري والعدو الصهيوني، على أرضية التوجه الأميريكي الهادف إلى إبادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
التاريخ هو التاريخ، وما حصل في تلك الأيام، وإن أصبح في ذكريات التاريخ، فقد فسره
الرئيس أنه تم نتيجة للتخطيط والتدبر المدروس والمحكم، وقد انطلق على أرضية الاتفاقات السرية التي أبرمها المبعوثون الأميريكيون مع القادة السوريين، وقد كان يوم الحصار المزدوج حول طرابلس عام 1982، وبعده امتدت خيوطه لكي تستفرد الصهيونية المدعومة من الولايات المتحدة بالثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
لقد تعرضت المخيمات الفلسطينية خلال سنة ونصف إلى ثلاث مذابح، وقد وجد
الرئيس في هذا فرصته للإعلان، وفي عيد الثورة، عن الحق الوطني في الدفاع عن الوجود الفلسطيني المؤقت في لبنان، وقد استمد هذا الحق من خلال كل المنطلقات الوطنية والقومية والدينية والإنسانية، وهو حق مشروع، وعلى الدول العربية والجماهير العربية كافة، أن تلقي بكل ثقلها وإمكاناتها إلى جانب الصف الوطني لحماية الإنسان الفلسطيني في مخيمه، وضمان حقه في الحياة الكريمة، حتى يعود إلى وطنه، وأكد
الرئيس أن الشعب الفلسطيني يرفض التوطين ويقاومه، وقد صنع في مقاومته هذه ملاحم عديدة، أبرزها ملحمة بيروت الخالدة، تلك الملحمة التي يقاومها المعتدون على المخيمات الفلسطينية في لبنان، لأن هؤلاء الأبطال، مرّغوا في الوحل غرور الجنرالات الصهاينة فوق كل شبر من أرض لبنان، وأذاقوهم طعم الفشل ومرارة الانتحار.
لقد عملت الثورة الفلسطينية، وهي تقاتل دفاعاً عن الأمة العربية بكل العناد والتضحيات، على تأسيس وبناء وتطوير المؤسسات الوطنية الفلسطينية، ونظرت إليها كمرتكزات رئيسية من مرتكزات الصمود الوطني في وجه مشاريع العدو التصفوية، وقد تعرضت هذه المؤسسات إلى حرب شرسة من قبل العدو الإسرائيلي عبر سنوات الاحتلال، وقد وقف الفلسطينيون في وجه إجراءات العدو، وحموْا هذه المؤسسات ووقفوا مدافعين عنها، من أجل الجماهير في خدمة حاجاتها الاجتماعية والإقتصادية، وقد جاهدت في أرض الوطن، وكانت اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة، التي انبثقت عن قمة بغداد، إحدى القنوات التي يتوفر من خلالها، المساعدات التي تقدم لأهلنا من أجل دعم صمودهم. وبعد تعليق اتفاق عمان من قبل الجانب الأردني، وإنهاء جميع نقاط اللقاء والالتقاء بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية، فوجئ الجميع بتعليق أعمال اللجنة المشتركة الأردنية الفلسطينية، ولكن هذا الأمر لن يغير الايمان الفلسطيني بالعلاقات المميزة التي تربط بين الشعبين، والتي أكدتها قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية.
إن منظمة التحرير الفلسطينية، لن تدخِّر جهداً في العمل مع الأشقاء العرب والأصدقاء كافة، على توفير سبل دعم الصمود وترسيخ أعمدته، ولن تقبل بأي حال من الأحوال، أن يمسّ هذا الواجب الوطني والقومي بأية اعتبارات. إن صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، هو عصب الدفاع عن الأمة بأسرها، وهو حجر الزاوية في الصمود العربي، والأمن العربي والسيادة العربية.
الوحدة الوطنية الفلسطينية، دائماً هدف وعمل وتواصل، وهي تتجسد وتتعمق في صمود المخيمات في لبنان، وهم يقاتلون في خندق واحد مع الأبطال المعتقلين في سجون العدو الصهيوني. إن هذه الوحدة قد عبرت عن نفسها عبر التلاحم الثوري، بين أطفال المخيمات في الشتات، وبين أطفال الأرض الفلسطينية، وقد كانت هذه الوحدة نموذجاً عظيماً يقتدي به الجميع، وحافزاً قوياً نحو تعزيز وحدة الثوار وفصائلهم داخل منظمة التحرير الفلسطينية، لأن وحدة الثوار على أرض المعركة، كانت الأرض الصلبة لتعزيز وثبات وحدة الفصائل الوطنية، وضماناً لتطورها وفعاليتها لشعبنا وجماهيرنا.
الرئيس دائماً يعاهد أن نستمر في درب التلاحم النضالي وتعزيز الوحدة الوطنية، وهو في كل مرة يدعو الجميع، انطلاقاً من المسؤوليات الوطنية والقومية والثورية، إلى استمرار الحوار بين الفصائل الفلسطينية، لتقوية أداة الثورة وترسيخ المؤسسات التشريعية والتنفيذية، بدءاً من المجلس الوطني الفلسطيني، واللجنة التنفيذية، وحتى آخر تجمع فلسطيني.
في تلك الفترة، كانت الوحدة الفلسطينية في خطر، بعد حدوث الانشقاق داخل فتح، وقيام بعض الفصائل بدعمه، إلا أن الثورة بقيادة
الرئيس الراحل، كانت حريصة على جمع الشمل، فقامت بخطوات عديدة على طريق إعادة اللُحمة للوحدة الوطنية، وقد شهدت فصول هذه الأعمال الجزائر وبراغ وتونس وموسكو، ونتج عنها اتفاقات وأوراق عمل وبيانات مشتركة، تدعو إلى متابعة الحوار، وقد دعم الموقف الوطني الفلسطيني، بمجهودات جبارة الجزائريون والسوفيت وأطراف أخرى، كانت حريصة على استمرار النضال الفلسطيني.
انقضى عام الجمر والنار، الذي شهدت فيه الثورة، وهي تخوض معارك الاستنزاف ضد العدو الصهيوني، أشرس المعارك ضد المخيمات، فكان عام جمر ونار، وشهد أنواع الدمار والموت، وهذا هو عام جديد، يبدأ ويحمل معه انبلاج الأمل، من قلب الرماد والنار، في وجه الرهان الصهيوني الأمريكي المهزوم، بتدفق العطاء الشعبي المتواصل حتى النصر....
المصدر: