في البدء كان الخبر العاجل، ثم توالت الصور، وتعاقبت التحليلات والتخمينات والمضاربات، وتوالت الأنباء المنسوجة خلافاً للواقع.
إنها قناة "العربية"، عندما تخوض معركتها ضد غزة، على طريقتها الخاصة تماماً. بلغ الحنق ببعض العاملين فيها مبلغه. فالخط التحريري الذي تفرضه الإدارة المعادية للمقاومة والمتعاطفة مع نهج المحافظين الجدد المنصرفين عن الحكم في واشنطن؛ يجعل الأصوات المكتومة تبوح بما لم يعد سرّاً في الواقع. فحتى إدارة بوش تنقلب على عقبيها، دون أن ينقلب هؤلاء المسؤولون عن نهجهم.
"تخيّل، تخيّل معي، إنهم قتلى، كل هؤلاء قتلى، لا يجوز لنا أن نتحدث عن شهداء، نحن نتحدث عن قتلى ولو كانوا أطفالاً رضّعاً. محظور أن نصف أياً من هؤلاء الضحايا في قطاع غزة بالشهداء، ذلك خط أحمر، حتى كلمة الضحايا مُستبعدة من قاموسنا".
"الخط الأحمر" الذي يشير إليه الموظف الذي يرفض الإفصاح عن اسمه، ليس في الواقع سوى واحد من خطوط حمراء كثيرة. هي التعليمات التي "تهبط من أعلى"، حيث الإدارة التي تفرض القيود والاشتراطات. تتمسّك إدارة الأخبار بالتعليمات الصارمة، ويتقبلها بعض الموظفين الذين تم اختيارهم بعناية كي يتوافقوا مُسبقاً مع المسار الذي سيدورون فيه، لكنّ موظفين آخرين لا يشعرون بالارتياح إزاء ما يُطلب منهم.
"تخيّل مراسلاً أو مُراسِلة، يعيش تحت القصف، ويعاين الدماء والأشلاء، ولا يُسمح له أن يصف ما يجري بأنه عدوان أو مجازر". يضيف الموظف "بلغ السيل الزبى، ففي "العربية" تكون الأفضلية للمواد والأخبار والصور والتعليقات التي توافق تفضيلات الإدارة. ما يسيء للمقاومة، ويغمز من قناة "حماس" هو المرغوب، ولك أن تتخيّل الكوارث المهنية التي تحدث. في أول أيام العملية العسكرية الإسرائيلية لم نجد سوى أن نتلقّف إشاعات ساذجة مثل خبر ضرب السجن وسقوط عشرات القتلى داخله. هي قصّة منحناها وقتاً واهتماماً زائدين، ثم تبيّن للجميع حقيقة الاختلاق في القصة. بالطبع لم نجرؤ على تكرار القصة في الأيام التالية. كان ذلك باعثاً على السخرية بكل معنى الكلمة".
يشير المتحدث في هذا الصدد إلى أكذوبة سقوط عشرات الضحايا من السجناء في سجن غزة المركزي، والتي تلقفتها "العربية" على ما يبدو عن إعلام "سلطة رام الله" وتلفزيونها الهزيل
في مساء السبت، الثالث من كانون الثاني (يناير)، بدأت المرحلة البرية بالفعل، استنفرت "العربية" طواقمها، وجاءت المشاهد الأولى لتعطي الانطباع بالإنجازات الإسرائيلية السهلة.
"سأضعك في صورة الموقف، لتعرف حجم التلاعب. لنفترض أنك مشاهد عادي، يجلس في مكان ما، داخل غزة، أو رام الله، أو عمّان، أو بيروت، أو القاهرة، أو نواكشوط. ستسمع أنّ العملية البرية الموعودة بدأت. لن تكون محظوظاً لو صادفت قناة "العربية" عندما تفتح التلفاز، فستجد جنوداً إسرائيليين مدججين بالسلاح يتقدّمون بدون خوف في قلب غزة، وستجد آليات عسكرية إسرائيلية تتقدم هناك بلا مقاومة. ماذا ستقول في نفسك؟ ستقول إنها نزهة عسكرية! ستقول مستغرباً: أين هي المقاومة ووعيدها؟ وستقول أيضاً: أين الذين سيزلزلون الأرض تحت أقدام الغزاة؟. أعني أنّ الرسالة واضحة تماماً للمشاهد العادي، فالتقدم الإسرائيلي يتواصل، دون إعاقة. لكنّ الحقيقة مختلفة تماماً".
يشرح الموظف كيف تمّ الأمر، وكيف جرى حبك التلاعبات في مطابخ "العربية". كان القرار بمجرد بدء المرحلة البرية، يقوم على ترك ثلاثة عناصر تتفاعل في ما بينها لتحدث التأثير المطلوب في إحباط الجماهير العربية: عنصر المشاهد المتحركة، وعنصر الكتابات النصيّة التي تظهر على الشاشة، وعنصر التعليقات التي تجري في الاستوديو على ما يجري.
أخطر ما في الأمر هي المشاهد المتحركة والكتابات النصية. فالمشاهد تم أخذها من الدعاية العسكرية للجيش الإسرائيلي، تم تلقفها باهتمام، وبثتها "العربية" مباشرة، حتى دون أن يُقال للمشاهدين حقيقة مصدر الصور، وأنها دعاية حربية لاستهلاك الجمهور الإسرائيلي بقدرات جيشه.
لم يتم قول الحقيقة، بل جرى الكذب على المشاهدين بشأن مسرح تلك المشاهد. كانت تجري في الواقع في مكان آخر غير الذي قالته "العربية".
كانت المشاهد في الحقيقة لقوات الاحتلال، مشهد لجنود راجلين من قوات النخبة "غولاني" ومشهد لجنود من القوات ذاتها يأخذون مواضع على الأرض في حالة من التهيّؤ والاستعداد، ومشهد ثالث لآليات عسكرية تتقدم بلا اعتراضات.
الحقيقة أنّ هذا كلّه كان يجري خارج قطاع غزة، ولم يكن داخل القطاع بأي حال. لكنّ قناة "العربية" قالت للمشاهدين "نرى الآن هذه المشاهد التي تأتينا من غزة"، ولم تقل إنها لتقّدم القوات الغازية باتجاه قطاع غزة. استمرّ بث تلك المشاهد ساعات مطوّلة بلا كلل أو ملل، حتى حلّ الصباح، مع تعليقات القناة بالنص المكتوب والمنطوق عن أنها تجري في غزة بالفعل.
ولتشكيل الانطباع المضلِّل، تطلّب الأمر تكرار المشاهد الثلاثة القصيرة آلاف المرّات، بالانتقال من الجنود الراجلين، إلى الآليات المتقدمة، إلى الجنود المتموضعين أرضاً، وتتكرّر الاسطوانة ذاتها حاملة مشاهد الدعاية الإسرائيلية المرّة تلو الأخرى.
بالنسبة لقناة "العربية" فإنّ هامش التلاعب يبدو واسعاً، بل واسعاً جداً، ولا قيمة للمهنية. هنا تتقمّص القناة تجربة "فوكس نيوز" الأمريكية الصهيونية، بكل ما فيها من فضائح مهنية تزكم الأنوف.
التعويل على التلاعب، حسب ما يكشف الموظف ذاته، يبدأ من الخلط المحبوك بعناية بين كلمة "غزة"، وكلمتي "قطاع غزة". في الإعلام الغربي يتم الدلالة على قطاع غزة بكلمة "غزة"، ولكنّ الجمهور العربي يدرك أنّ "غزة" هي المدينة، وليست القطاع بالكامل الذي يضمّ مدناً ومخيمات وبلدات أخرى.
هذا في الأحوال العادية، "فما بالك بوقت الحرب، فالتقدّم والتراجع لا يقاس بالاختصارات والألفاظ الموجزة، لا تستطيع أن تقول إنّ القوات الإسرائيلية الآن تحتلّ غزة لأنها تسيطر على بعض أراضي القطاع، لأنّ الدلالة واضحة تماماً، فغزة هي المدينة هنا، ولا شيء آخر، ومن المثير للسخرية أن نضطر لشرح هذا"، يقول الموظف.
لكنّ المثير للسخرية أن تقول "العربية" لمشاهديها إنّ مشاهد الآليات المتحركة، والجنود الراجلين، وأولئك المنبطحين، هي من "غزة". ومع ذلك، فهذا ما تمّ بالفعل طوال اثنتي عشرة ساعة على الأقل من بدء المرحلة البرية، أي حتى صباح الأحد الرابع من كانون الثاني (يناير).
كانت فضيحة مشاهد الجيش المتقدِّم بسهولة تأتي تحت شريط توضيحي مكتوب عليه "غزة قبل قليل". بمعنى آخر: اكتسح الإسرائيليون القطاع، وانهار كلّ شيء، و"تصبحون على خير"، كما يقول الموظف بصيغة اختلطت بها السخرية بالمرارة.
ا الذي يمكن قوله اليوم، بعد انقضاء أكثر من أسبوع على بدء المرحلة البرية الموعودة؟ ماذا لو أعادت "العربية" بثّ تلك المشاهد وكتبت فوقها "غزة قبل عشرة أيام". يجيب الموظف على السؤال الذي طرحه بنفسه بالقول "ستكون تلك فضيحة، ومن حسن الحظ أنّ ذاكرة الإنسان ليست مصمّمة لتستذكر كلّ صغيرة وكبيرة، وإلاّ لكان وضعنا حرجاً أكثر مما نحن فيه الآن".
المراسلون يخرجون عن صمتهم
يتابع الموظف "مراسلو "العربية" يقومون بأعمال جبّارة، يتعقبون الأحداث، يتفوقون أحياناً على مراسلي "الجزيرة" رغم عدم التكافؤ العددي. جهود مراسلينا تضيع لأنّ القناة لها سياستها الصارمة".
ويضيف الموظف "يبدو الأمر باعثاً على التهكّم عندما تضطر مراسلتنا في غزة وعلى الهواء مباشرة إلى تكذيب ما تقوله القناة. ولك أن تتخيّل ما يعنيه ذلك!".
يشرح الموظف "لو غادرنا الشاشة؛ ما الذي كان يجري في الواقع؟ كانت هناك أنباء عن تحرّكات تقوم بها آليات الجيش الإسرائيلي على تخوم قطاع غزة، في المناطق التي انتشرت فيها تلك الدبابات والآليات سابقاً، وربما محاولة تلك الآليات التقدّم نحو مساحات إضافية داخل القطاع".
أخذت "العربية" تقول إنّ الدبابات "تتقدم باتجاه داخل غزة". العبارة المفعمة بالتضليل، أخرجت المراسلة حنان المصري عن صمتها، بدت ساخطة عندما طالبت المسؤولين في غرفة الأخبار بالتعديل، أكّدت أنه نبأ "غير دقيق" و"مخالف للواقع". الصحفية الواقعة في قلب الميدان تدرك ما تعنيه مثل هذه المزاعم "العاجلة"، ولذا سارعت إلى القول "هذا يتسبّب في إثارة هلع الناس هنا في غزة، علينا أن ننتبه إلى هذا".
لم تبتعد المراسلة حنان المصري عن الواقع كثيراً، باستثناء أنّ قلّة من المشاهدين في القطاع يتذكّرون قناة "العربية"، إن تمكّنوا من متابعة التلفزة من أساسها بسبب انقطاعات التيار الكهربائي. الواقع الذي تقصده المراسلة، هو أنّ الشريط الأحمر الذي يقفز إلى الشاشة فجأة باسم "عاجل"، مؤهّل لأن يثير الفزع، إذا ما جاء بعبارة تبشِّر المشاهدين بأمنيات مسؤولي "العربية" بانهيار المقاومة (المسلّحين) وأنّ دبابات "الجيش الذي لا يُقهَر" باتت تنتظرهم على ناصية الشارع.
أزمة تتفاقم .. بالبثّ المباشر
مضت الليلة، والليلتان، والليالي الثلاث، ولم يتحقق ما بشّرت به "العربية" مشاهديها، فلا "الدبابات الإسرائيلية تقدّمت باتجاه داخل غزة"، ولا المهمّة اكتملت. لكنّ إدارة القناة المثيرة للجدل متمسِّكة بنهجها الحديدي في التعامل مع الموقف الميداني، وإضفاء أحكامها المسبقة على المشهد. لذا فهي لا تتوانى في منح الانطباعات بوجود إنجازات يحققها الجيش الإسرائيلي، وهكذا تلقفت يوم الأحد، الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) بعناية، تصريحات حكومة أولمرت بأنها تحقق "انتصارات" في قطاع غزة.
في الحقيقة، كان الأمر مجرّد سوء تفاهم. لم يقل المراسل الحلبي ما يستدعي الاستياء، لكنّ رداءة الصوت جعلت المراسلة المصري تحسب أنّ زميلها الواقف قرب حدود القطاع قد أدلى بمعلومات دفعت غرفة الأخبار و"الغاليري" لنشر المعلومة "العاجلة" التي تظهر أمامها على الشاشة. لكنّ المعلومة تم اختلاقها في مطبخ "العربية"، ولا دخل للمراسلين فيها من قريب أو من بعيد.
تلاعبات .. وإفراط في الانتقائية
حجم التلاعب في ما تبثّه "العربية" لا يقتصر على الانتقائية المفرطة في نوعية الأخبار، وضيوف البرامج، وما يجري التركيز عليه من التصريحات والأحاديث والمؤتمرات الصحافية. بل يأخذ التلاعب شكلاً صارخاً في بعض البرامج الوثائقية وغيرها من البرامج الدورية. تكفي هنا ملاحظة البرنامج المخصّص لاستعراض المقالات الصحافية المنشورة في وقت الحرب على غزة. لا يحتاج الأمر للمراهنة، فالقصاصات مكرّسة لتعزيز حرب القناة على غزة. لا تكفي الصواريخ والقذائف التي يمطر بها جيش الاحتلال أنحاء القطاع، فالقناة تشحذ سيوفها وخناجرها على طريقتها الخاصة، فيجري اقتناص المقالات والأعمدة المكرّسة لتشويه المقاومة، والتي تستأثر بالطبع بحركة "حماس" بصفة خاصة.
تحت القصف الحربي ثمة معادلة تقول: عليك أن تختار أن تكون في أحد مربّعين لا ثالث لهما، هذا الطرف أو ذاك. تختار "العربية" الوقوف ضد المقاومة، على طريقتها الخاصة، لكنها لا تقول بالطبع إنها مع العدوان، فهي لا ترى عدواناً في الأساس، ما تراه هو "هجوم"، و"اشتباكات".
تستنفد القناة كلّ ما بوسعها للمضيّ بعيداً في هذا الاتجاه. وبالنسبة للبرنامج المخصّص لاقتباسات المقالات الصحفية يمكن توقّع ما سيأتي في اليوم التالي سلفاً: معلِّقون جميعهم حانقون على المقاومة، غاضبون على "حماس"، يذرفون دموع التماسيح على معاناة أهل غزة ودمائهم، ويطالبون عملياً بما يضغط باتجاهه ثلاثيّ الحرب: أولمرت، باراك، وليفني. اقتباسات "العربية" تمنح الأفضلية لكاتبي الأعمدة المقرّبين من القناة، وبعضهم يضع قدماً فيها وأخرى في مؤسسات صحفية تتناغم معها.
أمّا ضيوف البرامج، فثمة أولوية للحوارات المطوّلة مع أشخاص خارج المشهد. ليس المقصود سلام فياض مثلاً، أو نايف حواتمة الذي تحوّل إلى ضيف مفضّل بمجرّد مباركته المبادرة المصرية المدعومة فرنسياً والمُقرّة إسرائيلياً. بل ضيوف أكثر وطأة على المشاهدين، يجري استدعاؤهم في التوقيت الخاطئ تماماً.
بعد ظهر السبت، السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)، كان دويّ ضربة "الصدمة والترويع" المفترضة على قطاع غزة لا زال يتردّد بأصدائه في غرفة الأخبار بمقرّ "العربية". جرى البحث عن ضيف نَسِيَه المشاهدون، ليخرج في لحظة قدّرت إدارة التحرير بأنها قد تكون حاسمة بالنسبة لقطاع غزة. هذه هي القصّة المختصرة لظهوره: محمد دحلان، القيادي الأمني السابق المتورِّط في ملفات يصعب حصرها، بحسب "فانيتي فير" على الأقل. لكن الإنصاف يقتضي الكشف عن الجانب الآخر من المشهد: فدحلان ذاته كان يسعى من جانبه، كان يشقّ القنوات إلى الإعلام، ولم يجد في البدء سوى "العربية" ليظهر عليها كمن يصعد على أشلاء غزة، متحدثاً دون التخلِّي عن ربطة عنقه المنتقاة بعناية لمثل هذا اليوم.
يشرح الموظف "كرّسنا أغلى ساعات البثّ لحوار مملّ مع ضيف كريه في عيون معظم المشاهدين، استضفنا دحلان في حوار مطوّل بينما كانت غزة تنزف الدم. كأننا نقول للمشاهدين: جئنا بالحاكم القادم لغزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية، تخيّل بربِّك؟!".
"الهجوم على غزة" .. وحرب الفيديو
للمصطلحات في "العربية" أهمية خاصة. ليس ذلك استثناء للقناة المثيرة لاستياء قطاعات عريضة من المشاهدين. فلكل قناة مصطلحاتها، لكنّ مصطلحات "العربية" تتفق مع اتجاهات التلاعب التي تستسيغها الإدارة.
من بين ما خرجت به القناة عنوانها العريض "الهجوم على غزة". هو ليس عدواناً إذاً، وليست حرباً كذلك. "كلمة الهجوم تجعلك أمام ما يُشبِه أفلام الحركة (الأكشن)، فالبطل عندما يهجم تنظر للأمور من زاويته، وترجو لو أنّه سيحرز النصر، ولو كان شرساً. الهجوم يضع مدخل الأحداث من زاوية المهاجِم (بكسر الجيم) وليس المهاجَم (بفتحها). وهو يعطيك الانطباع بأنّ الاكتساح الإسرائيلي قادم، ولا يشعرك بالطبع بالمظلمة والمأساة والكارثة"، وفق ما يشرح الموظّف.
وفي سوق المصطلحات، تتمادى "العربية" في استدعاء المفردات الاستثنائية من قاموسها الخاص بالتحرير الإخباري. القنوات الأخرى تتحدّث عن نشاط المقاومة، فتتعدّد التعبيرات، مثل "المقاومة تتصدّى"، أو "المقاومة تخوض معارك"، أو "رجال المقاومة يشتبكون مع الجنود الإسرائيليين"، أو غير ذلك. لكنّ سياسة "العربية" تمنح الأولوية لوصف ذلك بمفردة "الاشتباكات".
"المطلوب أن نقطع الطريق على تعاطف الجمهور العربي مع ما يجري، هي مجرد "اشتباكات"، بين طرفين متكافئيْن، فهما "يشتبكان" .."، كما يقول. في هذا السياق يأتي الموظف على أمثلة أخرى، "كما قلت لك، لا يجوز لنا أن نتحدث عن شهداء، نحن نتحدث عن قتلى ولو كانوا أطفالاً رضّعاً أو أمهات حبالى. ليس مسموحاً أن تقول عن هؤلاء الضحايا إنهم شهداء، هذا محظور في "العربية"، ولن تعثر ببساطة على كلمة شهيد سوى ما جاء على هيئة زلاّت ألسن المراسلين".
مَشاهِد ثمينة .. إلى سلّة المهملات!
يؤكِّد الموظف الحانق "لك أن تتخيّل حجم التقارير والمشاهد التي تمتنع القناة عن بثها. مشاهد يبعث بها المراسلون المعتمدون، وينتهي بها المطاف إلى هذا الأرشيف أو ذاك، أي لنقل: سلّة المُهملات عملياً. ليس مطلوباً ما يرفع الروح المعنوية، بل العكس إن توفّر. هذا أصبح معروفاً، ولذا فالمراسل أو المراسلة يمارس رقابة ذاتية ابتداءً، ورغم ذلك فعليه أن يتوقع التعامل مع المَشاهِد التي يبعث بها حسب معايير القصّ والتعليق التي تجري في المركز. ولك أن تتخيّل المفاجآت".
ويضيف الموظف "ما هو الحدث الذي يحرِّك الناس اليوم؟ غزة. ما هو الحدث الذي يحرِّك الجماهير في الشوارع؟ غزة. لكنّ القناة لم تكن تفضِّل على مدى أيام متعاقبة تغطية المظاهرات. لا تريد القناة تصوير الغضب الذي يتصاعد في كل مكان. بل في الأيام الأولى من الحرب كان يجري بثّ برامج وثائقية عن الأعاصير والكوارث الطبيعية وغير ذلك، مع تجاهل الإعصار الجاري في غزة، والكارثة المستمرّة هناك. الرسالة واضحة من تجاهل المشاهد المأساوية للفلسطينيين في غزة، فهو كما نقول No comment is a comment (اللاتعليق هو تعليق) فالتجاهل الذي حاولت القناة أن تحافظ عليه في الأيام الثلاثة الأولى كان يحاول أن يصرف أنظار المشاهدين عن غزة، وإشعارهم أنّ الأمر ليس على تلك الدرجة من الأهمية التي تستدعي الغضب. لكنّ الواقع فرض نفسه في نهاية المطاف، واضطرت القناة للتراجع، رغم أنها مشغولة بشكل زائد بأسواق المال وأخبار كأس الخليج في مسقط. نحن نخسر المشاهدين بهذه الطريقة، وطبعاً نكسب اللعنات، مزيداً من اللعنات".
التراجع الآخر بدا في انهيار "فيتو" القناة على تغطية المظاهرات الساخطة على المجازر، لكنها تقوم بانتقاء الساحة التي تجري فيها المظاهرات بموجب حساباتها الخاصة، وتقوم كذلك بالتركيز على جزئيات معيّنة مما يجري في ميادين التظاهر. والأهمّ أنّ تقارير المظاهرات لا تنقل للمشاهد حرارة الغضب الذي يشتمل عليه فعل التظاهر، فيجري التنقل السريع بين المشاهد كي تصل رسالة مبتورة. وغالباً ما يتم تغييب صوت المظاهرة وصخبها، عبر تدخّل مقدم النشرة الإخبارية بصوته من الاستوديو، دون أن يكون ذلك أمراً عابراً.
نكتة سمجة
يقول الموظف "كل الزميلات والزملاء سمعوا بالنكتة السمجة، بأنهم يعملون في قناة "العبرية". أصبحت تلك متداولة في أوساطنا الاجتماعية، وعليك إما أن تضحك عليها أو أن تدفع الاتهام عن نفسك. هي نكتة تظهر بين الحين والآخر، خاصة في حرب 2006 (حرب تموز على لبنان)، وهي الآن تعود مع أحداث غزة".
ويضيف "الذي يقوم بالسطو على متجر هو مسلّح، والذي يرتكب جريمة قتل هو مسلّح أيضاً، أفهِمت؟!. لذا فمن ذا الذي يتعاطف مع مجرّد مسلّحين؟!. هذا هو المغزى. لكن الفارق مهمّ أيضاً، ففي "العربية" أناس لديهم كفاءة ويحرصون على المهنية، وبالطبع لن يقبلوا بالعمل مع قناة إسرائيلية، حتى لو نطقت باللغة العربية، وهذا فارق مهم، أي أنّ الموظفين يشعرون في النهاية أنهم يعملون مع قناة عربية، وهم معذورون بدرجة ما، ويحاول بعضهم مقاومة التعليمات".
مع ذلك؛ يخلص الموظف إلى القول "المشكلة ليست في المراسل أو الموظف، أو مقدم البرنامج المغلوب على أمره، بل بعضنا يعاني وبعضنا مكبوت وبعضنا يندب حظّه، وإن استحسن زملاء آخرون هذا الحال، وانساقوا معه وأبدعوا حقاً في المسار المحدّد. المشكلة تبقى في الجالسين في المكاتب العلوية، في التعليمات، أي في المؤسسة باختصار، هل تفهَم؟!".
*المركز الفلسطيني للإعلام