بسم الله الرحمن الرحيم
أخلاقِها:
اتصفت رضي الله عنها بأخلاقها الحسنة, حتى لا تكاد تفوتها خلة أو صفة ممدوحة, ومنْ بعض تلك الصفات الحميدة, والأخلاق الكريمة:
الحَيَـاء: اشتهرت رضى اللَّه
عنها بحيائها وورعها. قالت: قَالَتْ: كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي فَلَمَّا
دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ,
ويا لها من صفة حميدة تُزَيّنُ بها المرأة, ويا لها من منقبة كريمة؛ فهي
من فرط حيائها تحتجب من الأموات, بل وكانت تحتجب من الحسن
والحسين، في حين أن دخولهما على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حل
لهما.
الكَّـرَم: كانت رضى الله عنها
كريمة؛ فيُروى أنّ "أم ذرة" كانت تزورها، فقالت: بُعث إلى السيدة عائشة
بمال في وعاءين كبيرين من الخيش: ثمانين أو مائة ألف، فَدَعت بطبق
وهى يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك
المال درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلُمي إفطاري، فجاءتها بخبز
وزيت، فقالت لها أم درة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا
لحمًا بدرهم فنفطر به. فقالت: لا تُعنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرتينى لفعلت,
والشواهد على جودها وكرمها كثيرة.
الصَّـبْر: ولها رضي الله عنها
في الصبر باع طويل؛ ذلك أنّها شاركت النبي صلى الله عليه وسلم في
حياته التي يملؤها الجد والاجتهاد, والزهد والتقشف, تقول رضي الله
عنها لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِها: "إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي
شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ, فَقال: يَا
خَالَةُ, مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ, إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا
يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا"
ومن شواهد هذا الصبر ما
رواه البخاري عن عائشة قَالَتْ: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ
عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا,
ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ, فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ؛
فَقَالَ: "مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ", فكل
ما عندها تمرة, ثمّ تجود بها لتلك المرأة, فترى فيها قول الله
سبحانه: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".
الزُّهْـد: روى البخاري عنْ
عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ عنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى
جَارِيَتِي, وانْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ, وَقَدْ كَانَ لِي
مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ
بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ", وَفِي الحديث دليلٌ على تَوَاضُعِ
عَائِشَة رضي الله عنها، فهي تلبس ما يأبى الخدمُ أن يلبسوه, وَأَمْرُهَا فِي
التواضعِ مَشْهُور, وَفِيهِ حِلْمُ عَائِشَة عَنْ خَدَمِهَا وَرِفْقُهَا فِي اَلْمُعَاتَبَةِ,
وَإِيثَارُهَا بِمَا عِنْدَهَا مَعَ اَلْحَاجَةِ إِلَيْه.
وقال عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْسِمُ سَبْعِينَ أَلْفًا وَهِيَ تُرَقِّعُ دِرْعَهَا,
فأيّ زهد أبلغ من هذا, يجتمع المال بين يديها فتنفقه, ثمّ تكتفي بثوب
مرقّع؛ وهي رضي الله عنها "لاَ تُمْسِكُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِلَّا
تَصَدَّقَتْ", ويُروى "أَنَّهَا سَاقَتْ بَدَنَتَيْنِ فَضَلَّتَا؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ
بَدَنَتَيْنِ مَكَانَهُمَا فَنَحَرَتْهُمَا, ثُمَّ وَجَدَتِ الأُولَتَيْنِ فَنَحَرَتْهُمَا أَيْضًا, ثُمَّ قَالَتْ:
هَكَذَا السُّنَّةُ فِي الْبُدْنِ.
الإِيثَــار[15]:
لمّا طُعن أميرُ المؤمنين عمر, وآلت حالُه إلى ما آلت إليه, قال لابنه عبد
الله: "انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ, وَلَا
تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا, وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ؛ فَسَلَّمَ – أي عبد الله - وَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ دَخَلَ
عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي؛ فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ,
وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ؛ فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي, وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ
الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي؛ فَلَمَّا أَقْبَلَ – أي ابنه – قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ
جَاءَ. قَالَ: ارْفَعُونِي؛ فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا
امِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ, مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ,
فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي, ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ
لِي فَأَدْخِلُونِي, وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِين".
فيا لهُ من إيثار, أنْ تخصُّ أمير المؤمنين بما سألَ من الدفن عند النبي
صلى الله عليه وسلم وتترك نفسها, وهو فضيلة سامية اتصفت بها أمّ
المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وفيه دليل على كمال إيمانها وحسن
طويّتها ورفعة أخلاقها, وطهارة قلبها, وكريم شيمها, ولها رضي الله
عنها في هذا الميدان مشاهد كثيرة, وإنّما ذكرت هذا الحدث لأنّه أعلاها
وأعظمها.
عبـادتها:
وهي رضي الله عنها الصّوامة القوّامة, فعَنْ عُرْوَةَ : أَنَّ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ
عَنْهَا كَانَتْ تَصُومُ الدَّهْرَ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ,وعنه قال: كنت إذا
غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها؛ فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح
وتقرأ "فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم", وتدعو وتبكي وترددها؛
فقمت حتى مللت القيام, فذهبت إلى السوق لحاجتي, ثم رجعت فإذا هي
قائمة كما هي تصلي وتبكي.
ودخل عليها عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهِيَ صَائِمَةٌ وَالْمَاءُ يُرَشُّ
عَلَيْهَا؛ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفْطِرِي؛ فَقَالَتْ: أُفْطِرُ؟ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ الْعَامَ الَّذِي قَبْلَهُ".
وهذا قليل من كثير, أردتُ بذكره الإشارة إلى عظيم أخلاقها, وحسن
طويّتها رضي الله عنها, وإلاّ فلها في كل أبواب الخير يدٌ طولى رضي الله
عنها وأرضاها.