م، كان المتنبي عائداً إلى بغداد محملاً بالهدايا والنفائس، وحين كان المتنبي بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد، على ما تذهب إليه إحدى الروايات، باغته فاتك الأسدي، أحد بلطجية وشبـّيحة العرب الكبار آنذاك، وخال ضبة العتبي، الذي كان المتنبي قد قال في أمه "الطرطبة" قصيدة هجائية بذيئة مشهورة، مطلعها:
ما أنصف القوم ضبة وأمه الطرطبة
فما بمن مات فخر ولا بمن نيك رغبة
وما عليك من العار إن أمك قحبة
وما يشق على الكلب أن يكون ابن كلبة
ما ضرها من أتاها وإنما ضر صلبه......إلخ،
وكانت واحدة من أفحش وأبذأ لقصائد التي قالها المتنبي في حياته، حتى قيل أنه كان يكره أن يذكـّره أحد بها. وقد تعرض فيها لوالدة ضبة فوصفها بأقذع الصفات، وأسوأها وكانت هذه القصيدة السبب الرئيسي لمقتله. وكان فاتك بذلك يريد الانتقام لشرف أخته. وإذ ذاك ما كان من أبي الطيب إلا أن حاول الفرار والنجاة، غير أن ابنه محسّد ذكـّره قائلاً، ألست القائل يا أبي الخيل والليل والبيداء تعرفني...والسيف والرمح والقرطاس والقلم. فقال له المتنبي قتلتني يا ابن اللخناء، وعاد فقاتل حتى قتل مع ابنه وغلامه. هذا ما كان من أمر ذاك الشاعر العظيم الذي يوصم عادة بالرافضية والإلحاد والكفر وادعاء النبوة بقوله أنا "لا"، في إشارة للحديث النبوي لا نبي بعدي. فما هو حال أمراء الجهاد والتأسلم السياسي وتجار الدين المنافقين الذين يحتكرون الإسلام، ويتحكمون بدروب السماء؟
فبرغم تغنيهم بالشهادة ودفع الناس إليها دفعاً، فإن شيوخ التكفير والتأسلم الكاذب سرعان ما يتنصلون من خطابهم الناري، ويصبحون "حريماً" ونسوان، حين تدق ساعة الحقيقة والمواجهة مع الموت الذي يحتاج إلى شجاعة نادرة من الرجال، يفتقدها على الأغلب هؤلاء. وهناك الكثير من الوقائع التي تفضح ازدواجية وزيف خطابهم، وتظهرهم على حقيقتهم العارية الجرداء. وهذا غيض من فيض "طازج" من ذاك الجبن التاريخي المعهود الذي يتحلون به. فحين جدّ الجد في موقعة المسجد الأحمر الأخير، مثلاً، لم يجد مولانا الشيخ عبد الرشيد غازي سبيلاً ينقذه من مواجهة مصيره المحتوم، سوى أن يهرب بزي امرأة ناقصة عقل ودين يحتقرها في خطابه الديني، وتعاليمه السمحاء، ويعتبرها مع الحمار والكلب مفسدة للصلاة. ومثـّل محاولته الفاشلة على الملأ والشاشات دون خجل أو استحياء.
وبتاريخ 21/7/2006 حاول الداعية الجهادي السلفي عمر بكري فستق السوري الأصلي، واللبناني والبريطاني الجنسية، وزعيم جماعة "المهاجرون"، الذي كان يدعو في خطابه لتوريط المغرر بهم لقتل وذبح الأبرياء الآمنين، وإلى إقامة دولة الخلافة في لندنستان، وتحريض الناس على خرق القانون البريطاني الذي شرّفه بالاحتراميته وآواه من خوف، وأطعمه من خوف، نقول حاول الهرب عبر التسلل والاحتماء مع النساء والأطفال إلى بارجة "صليبية" كانت بريطانيا قد أرسلتها لإجلاء رعاياها من لبنان في أوج حرب تموز/ يوليو من العام الماضي. وكان بذلك يحاول الهروب، والنجاة بنفسه من المواجهة مع "اليهود الكفار"، غير أنه طرد شر طردة من على متن تلك البارجة الحربية حين انكشف أمره، لأنه غير مرحب به البتة، في بريطانيا بسبب سلوكه المزدوج المشين، وإشادته العلنية بقتل الناس وبتفجيرات لندن الإرهابية وتحريضه على الموت والدماء.
وبتاريخ 19/11/2004 نشرت صحيفة الوطن السعودية، وعلى صدر صفحتها الأولى خبراً يتعلق باستنجاد الداعية السلفي الشيخ سلمان العودة بالمسؤولين السعوديين لمنع ابنه "معاذ" من السفر للعراق ومحاربة الغزاة "الصليبيين الكفار الأمريكان" حسب خطابه. وكان الداعية المعروف قد "وشى" بابنه المجاهد للأمن السعودي، مخافة على فلذة كبده الذي أوقف لاحقاً على الحدود السعودية العراقية، وأعيد إلى حضن أبيه الداعية الجهادي السلفي البطل المغوار، وهو خطيب آخر فصيح من تلك الفصيلة النارية الدعوية الدموية التي ورطت آلاف الشبان بالموت العبثي المجنون الرخيص الذي لا علاقة له بالله، ولا علاقة لله به.
وأمـّا زعيمهم وكبيرهم الذي علمهم القتل والسحر، فالله وحده هو الذي يعلم بأي وكر وكهف يقبع في جبال تورا بورا بعد أن فر مذعوراً، مع أمير المؤمنين وخليفة الله الملاّ عمر، أمام جنود الصليبيين الملاحدة الملاعين الكفار حين اجتاحوا أفغانستان، وقوّضوا "دار الخلافة والإسلام" هناك.
آن لهذه الدول، والأنظمة المتحالفة مع جماعات الموت والإرهاب، وللمجتمع الدولي عامة يستفيق على خطر الدعاة وأن يستصدر قوانيناً وتشريعات دولية صارمة وعابرة للحدود تحرّم، وتجرّم الدعوة إلى الموت والقتل والتحريض عليه تحت أية يافطة ومبررات. والحجر على كل من يردد هذا الخطاب، والتعامل مع كل داع إليه باعتباره منحرفاً ومختلاً عقلياً ويسهـّل للجريمة، بكل ما في ذلك من أبعاد ومسؤوليات قانونية تضع صاحبها تحت طائلة الملاحقة والعقاب والحساب الشديد فيما يتعلق بقتل النفس البشرية المحرم قانونيا وأخلاقياً.
يتنافى سلوك أمراء الجهاد الشخصي، عموماً، مع خطابهم الموجه للعامة والدهماء والمغرر بهم والمضلَّـلين، ومع ما نراه منهم من بطولات وعنتريات فارغة سرعان ما تختفي وتنكشف حين يجد الجد وتقع الفأس في الرأس. هذا السلوك يفتقر إلى أدنى مقومات الشجاعة والبطولة والالتزام، وإلى أي مضمون أخلاقي وقيمي يعرّي حقيقة هؤلاء الجهاديين الكاذبة التي تستعمل تلك العناوين والشعارات البراقة، لدغدغة عواطف ومشاعر المخدوعين والمضللين والمغرر بهم في نزالات دونكوشوتية هوجاء، لا طائل ولا جدوى منها، على الإطلاق، سوى نزف الدماء وزهق الأرواح، ولمجرد التنطع الفارغ والكسب الرخيص والاسترزاق.
وبدلاً من ذلك فشعارهم الدائم والحقيقي هو: "ربي أسألك نفسي". وليذهب الجميع إلى الجحيم والهلاك.