1-
التثبت والتوثق من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن سيرته صلى الله عليه وسلم تعد رسمًا لطريقه التي سلكها ، وقد أمرنا الله تعالى باتباع هديه ، فكان لا بد من توثيق وإثبات كل ما ينسب إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك أصل من أصول الدين . لذلك امتلأ القرآن الكريم بذكر سير الأنبياء السابقين ، وقد ذكر الله تعالى الحكمة من ذلك في كثير من الآيات من ذلك قوله تعالى : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } بعد أن ذكر الله تعالى تسعة عشر رسولًا في آيات متتالية في سورة الأنعام ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهديهم فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ }
(1/1)
2- معرفة تفاصيل سيرته صلى الله عليه وسلم حتى يمكن الاقتداء به في جميع شئون الحياة ، حيث كانت سيرته تطبيقًا عمليًا لأحكام الإسلام وشريعته ، حتى لا يظن ظان أن هذه الأحكام غير قابلة للتطبيق ، وقد قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ }« ولما سئلت عائشة رضى الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت : {كان خلقه القرآن » .
(1/2)
3- إن تقديم السيرة النبوية الموثقة بأسانيدها المتصلة إلى مصادرها الأصلية المتضافرة ، والتي تبين كل ما يتعلق بحياته صلى الله عليه وسلم بجميع تفاصيلها سواء كان في شئونه الخاصة أو العامة ، مهما بلغت تلك التفاصيل من خصوصية ، وسرد الحوادث التاريخية التي صاحبت تلك الحقبة مع وجود الآثار المادية التي تؤكد البحوث العلمية صحتها ومطابقتها للمذكور في الحوادث التاريخية كل ذلك ي
دعم صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه مهما بلغ المرء من عظمة ، فإن من العسير أن تتوافر له الظروف التي تمكن من متابعة جميع مسيرة حياته حتى من قبل ولادته إلى وفاته ، فإذا تم ذلك لشخص ، وتضافرت المصادر المتعددة على رصد وتسجيل مسيرة حياته ، دون أن تختلف تلك المصادر على شيء ذي بال ، إلا في أمور يسيرة تحتمل التأويل بيسر ، دل ذلك على أن هذا ليس أمرًا طبيعيًا بل هو أمر خارق للمعتاد مما يؤكد رعاية الله له تصديقًا لنبوته .
(1/3)
4-
معرفة عظمة الإسلام وقوته ، عندما ندرك أن هذا الدين قد أرسى قواعده وأحكامه ، وقلب موازين القوى السياسية والاجتماعية والثقافية لأجزاء كبيرة من الكرة الأرضية ، ثم قدم نموذجًا حضاريًا قويًا ظل عطاؤه مستمرًا حتى يومنا هذا ، وتظهر لنا هذه العظمة جلية إن علمنا أن هذا البناء الضخم قد تم تشييده في فترة وجيزة هي مدة حياته صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة التي لم تجاوز ثلاثا وعشرين سنة فقط .
(1/4)
أهم مزايا السيرة النبويةأولا : التوثيق المعتمد على الرواية المسندة المتصلة عن طريق الثقات الأثبات الذين شاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم فترات حياته ثم التابعين الذين عاصروا الصحابة وسمعوا منهم وحملوا عنهم . فالصحابة عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وشاركوا في صياغة سيرته ثم امتدت حياة الكثيرين منهم لفترة طويلة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاشوا مع التابعين فترة طويلة ، فلو علمنا أن من الصحابة من امتدت به الحياة إلى سنة مائة أو بعدها بقليل من الهجرة فقد توفى أبو الطفيل عامر بن واثلة عام 101هـ ومحمود بن الربيع 99هـ وعبد الله بن بسر المازني 96هـ وأنس بن مالك 93هـ رضى الله عنهم . وقد علمنا أن تدوين السنة رسميًا قد بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكانت وفاته سنة (101)هـ إذا علمنا ذلك كله ثبت لنا أن تتابع التلقي للسنة والسيرة لم ينقطع قط ، ولم تكن هناك فترة فاصلة بين التدوين والتلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة ثم التابعين .
(1/5)
ثانيًا : التدوين المبكر للسيرة النبوية : فقد بدأ تدوين السنة والسيرة النبوية جنبًا إلى جنب منذ وقت مبكر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بكتابة الأحاديث التي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم مثل بعثته صلى الله عليه وسلم وبداية نزول الوحي عليه وما لقيه بمكة قبل الهجرة ثم هجرته إلى المدينة ، وهجرة بعض أصحابه إلى الحبشة قبل ذلك ، وزيجاته صلى الله عليه وسلم وغزواته وأسفاره وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بشخصه وسلوكه في حياته كلها . فكل هذه الأمور مثبتة في السنة وكتبها .
أما التدوين الشامل للسيرة فقد بدأ منذ عهد معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه ، حيث كان عبد الله بن عباس المتوفى سنة (68) هـ رضى الله عنه يدرس تلاميذه نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه وكان تلاميذه يدونون ذلك ، وكذلك فعل عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما المتوفى سنة (63)هـ ومثلهما البراء بن عازب رضى الله عنه المتوفى سنة (74)هـ حيث كان يملي تلاميذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/6)
وفي عصر التابعين -الذين عاصروا الصحابة وأخذوا عنهم - بدأ التأليف في السيرة فقد ألف كتاب عروة بن الزبير بن العوام المتوفى سنة ( 93)هـ وهو ابن الصحابي الجليل الزبير بن العوام - ألف كتاب (مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم )
وكان أهم تأليف للتابعين هو كتاب أبان بن عثمان بن عفان المتوفى سنة(105)هـ وهو ابن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أتم كتابه في السيرة والمغازي قبل سنة (83 )هـ ثم كتاب وهب بن منبه المتوفى سنة (110)هـ وتوجد قطعة من كتابه (المغازي ) في مدينة (هيد لبرغ) بألمانيا . وكذلك موسى بن عقبة المتوفى سنة (141)هـ وتوجد أيضًا نسخة من كتابه (المغازي ) في (مكتبة برلين ) بألمانيا وهؤلاء جميعًا عاصروا الصحابة وأخذوا عنهم .
وأشمل كتابين في السيرة هما : (السير والمغازي ) لمحمد بن إسحاق المتوفى سنة ( 151)هـ ، و(السيرة النبوية ) لابن هشام المتوفى سنة (213)هـ وكلا المؤلفين قد عاصر التابعين وأخذ عنهم .
(1/7)
ثالثًا : الشمول والوضوح : فقد ثبتت تفاصيل سيرته صلى الله عليه وسلم بصورة شاملة وواضحة في جميع مراحلها منذ زواج أبيه عبد الله بأمه آمنة بنت وهب إلى ولادته صلى الله عليه وسلم ثم إلى بعثته صلى الله عليه وسلم بكل ما مر به قبل ذلك ، ثم من نشر دعوته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، فكل من أراد أن يعرف تفاصيل حياته صلى الله عليه وسلم يستطيع ذلك بيسر ومن مصادر متعددة ثابتة النسبة إلى مؤلفيها ، موثوقة البيانات التاريخية بصورة علمية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم -كما قال أحد الناقدين الغربيين -( هو الوحيد الذي ولد في ضوء الشمس)- فقد تضمنت كتب السنة والسيرة النبوية إضافة إلى القرآن الكريم ، تضمنت كل تفاصيل حياته صلى الله عليه وسلم العامة والخاصة ، فنحن الآن نعرف بدقة تامة جميع صفاته الخلقية والخلقية والسلوكية ، فنعرف على سبيل المثال : لون بشرته وشكل أنفه ومنخره ، وشكل فمه وأسنانه ، ولون شعره وطوله وهيئة مشيته وجلسته ، وكيفية كلامه وضحكه ، وأحب الطعام إليه ، وكيفية أكله وشربه بل حتى علاقاته الزوجية وسلوكه مع أزواجه ! بل أبعد من ذلك إن آثار بيته وبقاياه ، وقبره الذي دفن فيه موجود حتى الساعة ،
(1/
وبالإمكان التأكد من كل الصفات المنسوبة إليه بالوسائل العلمية الحديثة . فقد توفر لسيرته صلى الله عليه وسلم من الحفظ والصون ما لم يتهيأ لبشر من قبله ولن يتوفر لكائن من كان من بعده صلى الله عليه وسلم . وهذه المزايا الثلاث تجعلنا على يقين تام بصحة هذه السيرة وأنها سيرة نبي خاتم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ونوقن يقينًا مبنيًا على أساس علمي منهجي بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى إلى الناس كافة .
(1/9)
1-
القرآن الكريم : فقد جاء في القرآن الكريم كثير من سيرته صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكر الله تعالى حال النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره في قوله تعالى : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى }{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى }{ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } وذكر حاله بعد بدء نزول الوحي عليه حين خاف وذهب إلى زوجه خديجة يقول لها : « زملوني دثروني » ، فأنزل الله تعالى : { يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }{ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا }{ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا }{ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } كما أنزل عليه : { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ }{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } وذكر قصة زواجه من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة رضى الله عنه فقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا }{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
(1/10)
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }{ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } وقد اشتملت هذه السورة - سورة الأحزاب -على كثير من تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وأصحابه كما تضمنت تفاصيل كثيرة عن غزوة الأحزاب .
(1/11)
ومما تضمنه القرآن من السيرة : الآيات النازلة عقب سؤال الصحابة أو غيرهم عن أمر من الأمور ، كما حدث حين سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فأنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } ومن أخص ما تضمنه القرآن من السيرة حادثة الإفك المفترى على زوجه صلى الله عليه وسلم عائشة رضى الله عنها ففّصل تلك الحادثة في أكثر من عشر آيات من سورة النور في الآيات(من 11 إلى 26)
(1/12)
2-السنة النبوية : وقد سبق أن بينًا أن
السنة النبوية قد حوت جل تفاصيل السيرة مما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه أو ما رواه عنه أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين . وقد ذكرنا ما يتعلق بثبوت هذا المصدر ، والمنهج العلمي الدقيق الذي وضعه العلماء لدراسة السنة ومصادرها .
(1/13)
3-
الكتب المؤلفة في السيرة : وقد تتبعنا تسلسل التدوين لهذه الكتب ، وذكرنا بأنه بدأ منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم ، وفي عهد معاوية بن أبي سفيان تحديدًا بدأ التأليف الفعلي واستمر حتى عصر التابعين ومن بعدهم ويمكن مراجعة الفقرة المتعلقة بمميزات السيرة النبوية للوقوف على تفاصيل ذلك .
(1/14)
نسب النبي صلى الله عليه وسلمالجذور الأولى للنسب الفاضل :
لقد اختار الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون النبي الخاتم الذي بشر به الأنبياء السابقون عليهم السلام . فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا نسب شريف في قومه ، إذ إنه كان من أعرق قبيلة عربية وهي قريش ومن أشرف بيت في تلك القبيلة ، وهو بيت بني هاشم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله اصطفى كنانة من بني آدم ، واصطفى قريشًا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا خيار من خيار » وكان لهذا الاصطفاء أهمية ، إذ كانت الأنظار تحيط ببيت النبي صلى الله عليه وسلم والمتمثل في هاشم الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلم لذا حفظت سيرة ذلك البيت وأحداثه التاريخية منذ أن انتقلت الزعامة إلى هاشم حيث تولى سقاية الحاج ورفادتهم ، فأصبح قبلة وفخر قريش .
(1/15)
بعد وفاة هاشم تتبع الناس بأبصارهم وولائهم انتقال الزعامة إلى أخيه المطلب ، الذي كان رجلًا عظيمًا مطاعًا ذا فضل في قومه . وكان لأخيه هاشم زوجة بالمدينة من بني النجار ، ولها من هاشم طفل وضعته بعد موته وسمته عبد المطلب ، فلما شب الطفل ذهب إليه عمه المطلب فأخذه من يثرب إلى مكة حيث تربى بها . ثم إن المطلب مات بردمان بأرض اليمن ، فولى الزعامة بعده ابن أخيه عبد المطلب ، فأقام لقومه ما كان يقيمه آباؤه من السقاية والرفادة وولاية شئون الناس ، فشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه ، وكان أعظم ما حدث له أنه رأى في المنام آمرًا يأمره بحفر بئر زمزم ، وتكررت له هذه الرؤيا ثلاث ليال ، فعرف أن الأمر حق ، ففعل كما أمر ، إذ حفر بئر زمزم التي لا يزال ماؤها ينضح حتى اليوم .
(1/16)
ثم إن عبد المطلب ولد له عشرة من البنين ، منهم عبد الله ، وهو أحب أبنائه إليه ، وكان لعبد الله هذا واقعة مهمة مع أبيه جذبت أنظار قريش إليه ، ذلك أن عبد المطلب كان نذر أن يذبح أحد أبنائه قربانًا لله تعالى إن رزقه عشرًا من البنين ، فلما بلغوا عشرا أقرع بينهم ، فوقع السهم على عبد الله ، فأعاد ذلك فخرج عليه مرة أخرى ، فذهب به إلى الكعبة ليذبحه وفاءً نذره ، فمنعته قريش من ذلك لما كان لها من حب لعبد الله ، ثم إن عبد المطلب لجأ إلى عرافة لترى له مخرجًا من نذره ، فأخبرته أن يقرع مرة أخرى فإذا خرج السهم على عبد الله جعل محله عشرة من الإبل ، ثم يعيد ذلك كلما خرج السهم على عبد الله ، ولم يخرج السهم على الإبل حتى بلغت المائة عندئذ خرج عليها ، فنحرها عبد المطلب جميعًا فداء لابنه ، ففرحت قريش بذلك .
وقد كانت هذه الواقعة تقديرًا من الله تعالى ، إذ إن عبد الله هذا هو والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد أشار صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله : « أنا ابن الذبيحين » يشير بذلك إلى قصة جده إبراهيم الخليل عليه السلام حيث أمره الله تعالى بذبح ابنه في رؤيا رآها ، وقصة جده عبد المطلب هذه مع أبيه عبد الله .
(1/17)
بهذه النبذة اليسيرة يتبين أن مكانة أسرة النبي صلى الله عليه وسلم جعلت أحداثها تحظى بالاهتمام والمتابعة ، مما جعل أهم تفاصيلها معلومة بدقة تامة ، حتى زواج عبد الله من آمنة بنت وهب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب ، ووفاة عبد الله بعد هذا الزواج الذي خلف لعبد الله ابنه الوحيد من آمنة والذي ولد بعد وفاته بقليل وكان هذا المولود هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، رسول الله صلى الله عليه وسلم .
نسب النبي صلى الله عليه وسلم :
لقد اشتهرت العرب بالاهتمام بالأنساب ومعرفتها متصلة متسلسلة بدقة تامة ، لذا حفظ التاريخ كثيرًا من التراث النسبي في مؤلفات كثيرة تذكر أنساب القبائل وفروعها ، ومما حفظته المصادر ، نسب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ اتفقت جميع المصادر على سلسلة نسببه صلى الله عليه وسلم بلا خلاف يذكر رواية وكتابة ، فنسبه صلى الله عليه وسلم هو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر - وهو الملقب بقريش ، وإليه تنسب القبيلة - ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان .
(1/18)
الطفولة والصبالقد سجلت المراجع التاريخية المروية بأسانيد متصلة إلى جميع المصادر الثابتة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم - تفاصيل نشأة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما مر بها من أحداث خلال فترة الطفولة والصبا ، فذكرت تلك المصادر أنه صلى الله عليه وسلم بعد ولادته تولت إرضاعه حليمة السعدية ، حيث كانت عادة العرب أن تدفع بأطفالها إلى نساء البوادي ليقمن بإرضاع الأطفال في البادية حتى ينشأوا على الفصاحة ، والفطرة السليمة ، والقوة البدنية .
وقد روت المصادر الإرهاصات التي حدثت لحليمة وزوجها منذ أن حل بهم الطفل الجديد - محمد صلى الله عليه وسلم - إذ تحول حالهما من العسر إلى اليسر ، فقد أصبحت شاتهم العجفاء دارة للبن ، وحتى حليمة ذاتها أصبح ثديها مدرارا للبن لأنها رضيع النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما روته حليمة فيما ذكرته المصادر .
(1/19)
وقد بقى الصبي مع حليمة حتى بلغ الخامسة من عمره ، وما أعادته إلا أنها خافت عليه من واقعة حدثت له ، وهي حادثه شق الصدر . ذلك أن « ملكين جاءاه صلى الله عليه وسلم وهو بين صبية يلعبون فأخذاه وشقا صدره وأخرجا قلبه وغسلاه في طست ثم أعاداه موضعه فالتأم الجرح كأن شيئًا لم يكن » ، فلما حكى الصبية وفيهم صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة لحليمة وزوجها خافا عليه خوفًا شديدًا فقررا إعادته إلى ذويه بمكة ، ولكن ما بلغ الصبي السادسة من عمره حتى توفيت أمه آمنة ، فتولى تربيته جده عبد المطلب فلما بلغ الصبي ثماني سنين وشهرين وعشرة أيام توفى جده عبد المطلب فانتقلت رعايته إلى عمه أبي طالب ، فبقى بكنفه حتى بلغ أربعين سنة . وكان صلى الله عليه وسلم في أول شبابه عمل في رعي أغنام قريش على دراهم يعطونها إياه على ما هي عليه سنة الأنبياء من قبله .
(1/20)
الزواج والرجولةكان صلى الله عليه وسلم مميزًا في شبابه كما هو مميز في طفولته وصباه ، فقد برزت فيه أسمى الصفات الخلقية حتى إن قريش لقبته بالأمين ، وكانت تضع عنده أماناتها ، فلما كانت هذه حاله في قومه فقد جذبت هذه الخصال إليه سيدة قريش وصاحبة التجارة والمال فيهم خديجة بنت خويلد ، فأوكلت إليه الاتجار في مالها فكان نعم التاجر الأمين فجرى على يديه لتجارتها نمو كبير ، فلما رأت همته وصدقه وأمانته وخصاله الحسنة عرضت عليه الزواج من نفسها وهي بنت الأربعين وهو ابن الخامسة والعشرين فأجابها وتم الزواج ، وبقى معها زوجًا وفيًا حتى بلغ الأربعين من العمر .
(1/21)
وكان أعظم ما مر به مع قريش قبل النبوة ، أن قريشًا أرادت أن تعيد بناء الكعبة بعد أن تهدم جزء منها ففعلت حتى إذا بلغت موضع الحجر الأسود ، وهو حجر معظم فيها اختلفت قريش فيمن يكون له شرف وضع ذلك الحجر في موضعه واشتد خلافهم حتى أوشكوا أن يفتتنوا ، إلا أنهم رضوا برأي من أشار عليهم بتحكيم أول مارّ بهم ، فكان أول من مرّ بهم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فلما رأوه هللوا جميعًا فرحًا : رضينا بالأمين حكمًا . فعرضوا عيه الأمر ، فطلب منهم ثوبًا وضع عليه الحجر الأسود وطلب من كل فريق أن يرشح واحدًا منهم ، فرشحت كل قبيلة واحدًا منها ، وطلب منهم أن يأتوا فيرفعوه جميعًا ، حتى إذا بلغوا به موضعه من الكعبة أخذه هو -صلى الله عليه وسلم - فوضعه في مكانه ، فازداد بهذا الحدث ذكره عند قريش وغيرهم .
(1/22)
الوحي والنبوةمما يجدر ذكره قبل التعرض للوحي والنبوة ، واقعة مهمة حدثت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أنه لما بلغ العاشرة - أو يزيد قليلًا - خرج به عمه أبو طالب في رحلته التجارية إلى الشام ، حتى بلغوا بصرى ، وهي بلدة في الطريق إلى الشام ، التقوا فيها براهب يدعى بحيرا ، واسمه جرجيس ، نزل عنده الركب ، فأكرمهم وأحسن ضيافتهم ، ثم إنه رأى معهم الصبي محمد بن عبد الله ، فعرفه بوصفه المذكور في كتبهم ، فقال وهو آخذ بيد الصبي : هذا سيد العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ، ثم سأل عن أبيه ، فقال أبو طالب أنا أبوه ، فقال بحيرا : لا ينبغي أن يكون أبوه حيًّا .
(1/23)
فأخبره أبو طالب بقصته فقال له بحيرا : هذا هو النبي الذي بشر به عيسى ، وإنا نجد صفته في كتبنا ، ثم قال : احذره من يهود . وقد شب صلى الله عليه وسلم بمكة حتى بلغ الأربعين متميزًا بخصاله التي بهرت من حوله ، فقد كان قوي الفطنة ، طيب المعشر ، جميل السيرة ، سليم السريرة ، كامل الخلق والخلق ، تام المروءة ، عالي الهمة طويل الصمت في التأمل والتفكير ، محبًا للخلوة معتزلًا للهو والعبث ، هاجرًا للأوثان ، مطمئن القلب ، سامي النفس ، حتى إذا كان قريب عهد من النبوة حببّ إليه الخلاء . فكان يخلو بنفسه الليالي ذوات العدد يخلد فيهن إلى غار حراء يتحنث فيه ، متأملًا متدبرًا .
(1/24)
ثم توالت آثار النبوة تلوح عليه ، وكان أعظم ذلك الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى شيئًا في منامه إلا كان مثل فلق الصباح في تحققه حتى مضى على ذلك ستة أشهر ، ثم نزل عليه الوحي بالقرآن الكريم وهو متحنث في غار حراء ، وذلك شهر رمضان في السابع والعشرين منه - على الأرجح - وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة زوجه رضى الله عنها قالت : « أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ، الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى شيئًا إلا جاء مثل فلق الصبح . ثم حبّب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه - أي يتعبد فيه- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة -زوجه - فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال صلى الله عليه وسلم : فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ }{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ }{ الَّذِي عَلَّمَ
(1/25)
بِالْقَلَمِ }{ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال زمّلوني زملونّي ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا والله ، ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم وتحمل الكّل وتكسب المعدوم ، وتقرى الضيف وتعين على نوائب الدهر .
فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن عبد العزّى - ، ابن عم خديجة - وكان امرءا تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عمى -فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى - عليه السلام - يا ليتني جذعًا ، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي » .
(1/26)
بعد هذه الواقعة استمر نزول الوحي بالقرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر سنة ، ثم بالمدينة النبوية بعد الهجرة عشر سنين ، حتى اكتمل نزول القرآن ، فكان هو الكتاب المتضمن لمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في لغته ومضمونه ومعانيه ، بما حواه من أخبار وآيات في الآفاق والأنفس ، وحقائق علمية معجزة بجانب كونه الكتاب المتضمن لشرائع الإسلام وأحكام به .
وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنين بعثته الأولى وهي ثلاث عشر سنة بمكة التي اضطهده فيها أهلها وأخرجوه منها مهاجرًا إلى المدينة المنورة التي أنشأ فيها دولة الإسلام وتكاملت بها تشريعات الإسلام وتوسعت دائرته إلى خارج الجزيرة العربية حتى توفاه الله تعالى في السنة العاشرة للهجرة .
(1/27)